قبل نحو أسبوع، كان لبنان يحتفل بالأسبوع الوطني لوهب وزرع الأعضاء، من خلال الحملة الإعلامية التي عملت عليها «اللجنة الوطنية لوهب وزرع الأعضاء والأنسجة البشرية». لم يكن الاحتفال بالمناسبة مع «طنة ورنة»، لكن جميع المعنيين من أطباء اختصاصيين وناشطين في اللجنة الوطنية ومرضى بحاجة إلى زرع وأهالي مرضى... جميع هؤلاء انضموا إلى آخرين في العالم احتفلوا أيضاً، كل في بلاده، بأسابيعهم الوطنية. فقضية وهب الأعضاء هي مشكلة عالمية بامتياز يتساوى بها أهالي البلدان الفقيرة مع أهالي تلك الغنية.
وعشية الأسبوع الوطني لوهب الأعضاء اللبناني، كانت الجمعية الآسيوية لزرع الأعضاء (AST) قد عقدت مؤتمرها الحادي عشر في بيروت، برئاسة الدكتور أنطوان بربري، وهو نائب رئيس الجمعية الشرق أوسطية لزرع الأعضاء (METCO)، التي تترأسها المنسقة العامة للجنة الوطنية فريدة يونان. اللقاء لم يكن مقرراً في لبنان، لكن بربري حرص بالتنسيق مع رئيس الجمعية الدكتور مروان المصري على عقده هنا، بعدما كانت قد تأجلت أعماله قبل سنتين بسبب الأوضاع السياسية الأمنية في البلاد.
ولعل أهمية المؤتمر الذي شاركت فيه 47 دولة هذا العام، تكمن في أنه عقد للمرة الأولى في لبنان وفي منطقة الشرق الأوسط. أما أهدافه، وفي ما خص الوضع اللبناني خاصة، فهي عدة وقد شرحها بربري في لقاء مع «السفير».
في البداية، يأتي «إبراز واسترجاع مقام لبنان العلمي على الصعيد العلمي والتقني العالمي». ويشرح بربري أنه من خلال تنظيم المؤتمر هنا واستضافة الخبراء العالميين، «تمكنا من أن نبرهن قدرتنا على امتلاك التقنيات والخبرات لوهب وزرع الأعضاء تماماً كسوانا في العالم».
بعدها، يثير بربري «مشكلة وهب الأعضاء الشائكة والتركيز على خلق ثقافة وهب». فيلفت إلى أن هذه المشكلة ليست لبنانية فحسب بل عالمية، إذ يعاني العالم ككل نقصاً في الأعضاء الموهوبة. «وكثيرون هم الناس في لبنان كما في الخارج الذي ينتظرون على لوائح انتظار، من دون جدوى! فيتوفون وهم ينتظرون. في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية مثلاً، ينتظرون بين خمس أو ست سنوات للحصول على كلية. لكن على الرغم في هذا الانتظار، هناك كثيرون ما بين عشرين وثلاثين في المئة ما بلحقوا! أما في لبنان فالانتظار يطول أكثر والعواقب تأتي أسوأ». لذا، يؤكد بربري هنا «أننا حاولنا من خلال هذا المؤتمر التركيز على أهمية وهب الأعضاء وبحثنا بأمور تمهيدية بهدف تسهيل وهب الأعضاء عند الميت». وقد أتى ذلك بالتنسيق ما بين اللجنة الوطنية لوهب وزرع الأعضاء والأنسجة البشرية (NOOTDT) والجمعية الآسيوية لزرع الأعضاء (AST) والجمعية الشرق أوسطية لتنسيق وهب الأعضاء (METCO)».
يدفعهم اليأس إلى المجهول ولأن العالم يعاني مشكلة حقيقية في توفر الأعضاء، وخاصة لبنان حيث ثقافة الوهب ما زالت بحاجة إلى جهود مكثفة، نحن أمام مشكلة أكبر وأخطر: المتاجرة بالأعضاء.
في أحد المؤتمرات الطبية الأخيرة عن الأمراض الخطيرة والمزمنة عند الأطفال، عرض أحد الجراحين صوراً لطفلة في عامها الثاني تعاني تشوها كبيرا وتقرحا في بطنها. السبب: بعدما عجز والداها من إيجاد كلية، سافرا إلى العراق حيث وعدا بواحدة. دفعا مبالغ طائلة لم يفصحا عنها، إذ المهم أن تنجو صغيرتهما. وأجريت العملية. لكن المضاعفات بدأت. وفور عودتهما إلى بيروت أدخلت الصغيرة المستشفى في محاولة لإصلاح ما يمكن إصلاحه. وما زالت تعالج.
ورداً على سؤال حول توافر شبكات منظمة للمتاجرة بالأعضاء في لبنان، يجيب بربري أنه «يمكن حدوث متاجرة محدودة، لكن ليس هناك من شبكات. هي قد تكون من تحت الطاولة. فالقانون اللبناني واضح جداً ووزارة الصحة صارمة والأطباء منزهون... لكن أن تحصل أمور نحن لا نخبرها، لا أستطيع الجزم».
لكنه يشير إلى بعض ما يحدث في دول مثل الفيليبين ومصر والصين والعراق والهند. فيلفت هنا إلى أن الهدف من «إعلان إسطنبول» الذي تمت معالجته خلال المؤتمر الأخير هو وضع حد لكل ذلك. فيشرح أنه «عادة يحضر واهب ليبيع كليته مقابل مبلغ رمزي من المال. الطبيب هو من يحصل على المبلغ المرقوم. هو عاملها بزنس! فيتم الزرع من دون التركيز على نوعية العملية ولا على العلاج ولا على مدى تقبل الجسم للعضو». يضيف «ليس هناك من احترام لا للواهب ولا للمتلقي».
من جهة أخرى، يشير بربري إلى أنه في بعض الدول، تقع حوادث خطف وقتل لانتزاع أعضاء الضحية التي لا يمكن تأمينها من واهب حي، كالقلب مثلاً أو الكبد أو الرئتين. «لذا، لدينا في «إعلان إسطنبول» قوات تدخل خاصة لكشف مكان وقوع هذه الجرائم وفضحها أمام المسؤولين والجمهور».
ولأن بعض الدول الفقيرة تحولت اليوم إلى وجهة للباحثين عن أمل ما، يوضح بربري أنه يتم رفع أتعاب وتكاليف العمليات في تلك الدول حيث تتم الصفقات... فترتفع أحياناً كلفة العمل الجراحي من 10 آلاف دولار إلى 60 ألف دولار. كما يشرح أنهم لحظوا عدم تحضير المريض قبل الزرع بالإضافة إلى غياب الفحوصات المناسبة. «لذا يقضي كثيرون بعد إجراء تلك العمليات، إذ يعاني كثيرون من رفض العضو». ويأسف لكل هؤلاء الذين
يسافرون لإجراء عمليات في بلدان معينة مقابل مبالغ مالية يدفعونها... فيعودون وهم يقولون: ماشي الحال. لكن سرعان ما يتبين أن الحال: مش ماشي. «وهذا ما نحاول ردعه. إذ يشوه جمالية الوهب. وبالنسبة إلي كطبيب، كل واهب حي أو ميت هو بطل».
ويشير بربري هنا إلى دراسات في باكستان وغيرها من الدول أشارت إلى أن هؤلاء الذي يتلقون مبالغ مالية لقاء كلية مثلاً، لا يغتنون. فالمال يصرف بسرعة. «هؤلاء فقراء «معترين»، يصرفون المال ليعيشوا وليس للتحسين من مستواهم الطبي أو الاجتماعي أو العلمي. فيُستغل بؤسهم وفقرهم». لكنه يلفت إلى أنه في لبنان ولغاية الآن، «لم يمر علي شيء كهذا. لم يحاكم أحد في لبنان. يمكن أن تحصل أشياء غير قانونية لكن ليس من خطف أو قتل». ويشرح أن القانون يفرض توقيع مستندات عند كاتب العدل والمحامي يتم التعهد فيها بعدم تلقي الواهب أية أموال. وإذا ما حدث أي خرق، وأراد أحد الطرفين الشكوى، هما يعرفان جيداً «أنهما يدخلان السجن معاً لأنهما احتالا على القانون».
ويشدد بربري على أن أبرز ما يردع أعمالا كهذه في لبنان، أن «الطبيب ليس هو من يقرر إذا ما كان الزرع سيتم أم لا. هو يقرر إذا ما كان العضو مناسباً. أما اللجنة الوطنية المتعلقة بوزارة الصحة فهي التي تقرر السماح بذلك أم عدمه». لكنه يخبر عن بعض المرضى الذين «يخبروننا بأنهم حصلوا على قطعة أرض أو سيارة لقاء تبرعهم. هذه أمور تحصل بين الإخوة. أنا لا أستطيع أن أكون المحقق والتحري. وهذا أمر لا أعرفه إلا بعد الزرع. يعني أن المقابل المالي أو العيني أمر وارد بين الأقارب كما بين الأغراب، أينما كان».
إعلان إسطنبول لكن، ما هو «إعلان إسطنبول» الذي من شأنه رعاية أخلاقيات وهب الأعضاء والتقنية في زرعها منعاً لانزلاق أهدافه السامية في متاهات التجارة الدولية التي تصب في خانة «الجريمة المنظمة»؟
لعل أبرز ما نوقش خلال اللقاء الآسيوي، كان «إعلان إسطنبول» الذي ينظم الأخلاقيات والقوانين العالمية لوهب وزرع الأعضاء من الحي والميت من خلال بنود ومواد مختلفة.
وكانت هيئة الإعلان (التي تضم خمسة لبنانيين من أصل 26 عضوا دوليا) قد اجتمعت في العام 2008 في إسطنبول، بمشاركة 150 خبيرا في حقل الوهب والزرع والدين والأخلاق والتشريع. فخرجوا باقتراحات وتوصيات تبنتها بغالبيتها الجمعيات العالمية والعلمية التي تختص بزرع ووهب الأعضاء بالإضافة إلى منظمة الصحة العالمية.
كذلك، يلفت بربري إلى أنهم دعوا إلى اجتماع في لبنان للخروج ببرنامج «يمكننا من تطبيق التوصيات من خلال حكومات الدول ومنظمة الصحة العالمية والجمعيات العلمية. فالمهم هو كيفية تطبيقها، حتى نتمكن من تنظيم وهب وزرع الأعضاء من خلال نمط عالمي موحد وبشفافية لمنع المتاجرة. فهي وصلت إلى مرحلة تشوه هذا العمل النبيل... «قدي بتدفع؟» سؤال ومفاصلة يغطيان على كل الشفافية والعمل الإنساني». ويشدد بربري باعتزاز على أنهم ضمنوا «إعلان إسطنبول» بنوداً من النظام اللبناني في هذا المجال. وبفخر أكبر يتذكر البروفسور بيتر مدور (1915-1987)، وهو من الأوائل والسباقين في مجال زرع الأعضاء. «فهو أول من تحدث عن المناعة وأهميتها في تقبل العضو». ومدور نال جائزة نوبل للطب في العام 1960.
ابو جودة ميليا